Post Image Health

حكايا إنسانية من ليلة الإنفجار المشؤوم


Wed 2020/08/26

كيف واكب الأطباء ليلة لن ينسوها في حياتهم

خاص - snobarabia

أبطال عملوا في الظل لينقذوا أرواحاً وأجساداً فتكت بها ضمائر معتمة وحوّل انفجار الذل حياتها بلحظة الى كتلة من الألم والخوف لا تنتهي. أكثر من أطباء كانوا وأحن من ملائكة رحمة، كانوا القلب الذي ضخ دم الحياة في الأجساد المصابة والنفوس الذابلة. بعضهم عمل في الخطوط الأمامية وبعضهم كان في الخطوط الخلفية يدعم ويساند ويستقبل جرحى ما وجدوا لهم مكاناً في مستشفيات العاصمة. قصص كثيرة تروى عن تلك الليلة المشؤومة، اخترنا ان نستعيد بعض فصولها الإنسانية مع د. رياض ابي صالح جراح التجميل و الترميم و ما عاشه مستشفى ومركز  Bellevue  مع المصابين في تلك الليلة .

شهادة د. رياض أبي صالح من مستشفى ومركز Bellevue

كان مساء ككل الأمسيات حين ترك د. رياض ابي صالح جراح التجميل والترميم عيادته في منطقة الزلقا متوجهاً نحو منزله في الحازمية عن طريق الكرنتينا – اوتوستراد أميل لحود، في الساعة السادسة وست دقائق دوى الانفجار، لم يدرك بداية ما يحدث  لم يشعر بفظاعة الأمر رغم ان السيارة تمايلت به بحدة وكأنها هزة أرضية. أول ردة فعل له كانت الاتصال بمستشفى ومركز  Bellevue الطبي حيث يعمل ليسأل بقلق إن كانوا بحاجة إليه وكأن شيئاً ما همس في داخله أن الحاجة الى كل الأطباء ستكون كبيرة.

القرار ترك له إذ لم يكن أحد بعد قد أدرك حجم الكارثة، وما هي إلا خمس دقائق حتى اتصلوا به من المستشفى طالبين تعبئة عامة لكل الأطباء. عرف د. رياض كما سواه من الأطباء ان مآساة قد حلت ببيروت وأبنائها لكن أوجه المأىساة لا تزال خفية معظمها تحت الردم والركام. هرع الى المستشفى لكن زحمة السير في الطريق تتطلبت منه ساعة للوصول الى مستشفى ومركز بلفو في المنصورية. كان يعرف ان المستشفى قد وضع خطة للطوارئ ودرّب كل العاملين فيها من أطباء وجسم تمريضي و وظفين عليها للتصدي لأي حدث جلل يطرأ. وكان الطبيب يستعيد في ذهنه خلال الطريق تفاصيل الخطة وهو مطمئن الى  قدرة المستشفى على تلبية الأحداث الصحية الطارئة مهما كان حجمها.

لكن عند وصوله الى تلك المنطقة الآمنة التي لا تبعد أكثر من ربع ساعة عن بيروت كانت الصدمة ... المشهد مخيف : الدماء في كل مكان وعدد المصابين في الخارج الذي يحتاجون الى عناية طبية تفوق عدد الأطباء والممرضين . مشهد كأنه نهاية العالم، زحمة ألم وصراخ وأنين. ولا تزال أعداد الجرحى والمصابين تتصاعد. هنا تكشف للجميع هول المآىساة وضخامة الإنفجار الذي ضرب بيروت وأخذ بعصفه ناسها وحجرها. الكل هرع الى الطوارئ على اختلاف اختصاصاتهم هب الاطباء جميعهم للمساعدة في استقبال المصابين .

 

 

خطة طوارئ ارتبكت خطواتها

وبالرغم من تمارين كثيرة تدربوا عليها  في مستشفى ومركز  Bellevue الطبي  لتنفيذ خطة طوارئ عند الحاجة، إلا أن شيئاً مما تعلموه لم يعدّهم لما سيواجهونه في ذاك اليوم المشؤوم.  وجدوا أنفسهم فجأة في أمام أعداد هائلة من الجرحى النازفين دماً وألماً، والمصابين الذين يئنون خوفاً ووجعاً و ضياعاً. أمام المشهد المرعب كان الارتباك بداية لكن الشجاعة ما لبثت أن تفوقت على كل خوف وصار الواقع، على قساوته، حالة صحية يجب التعامل معها.

الاختصاصات الطبية على اختلافها تجندت لفرز المصابين ومداواة الجروح  في قسم الطوارئ، وتحول معظم الأطباء الى جراحين يخيطون جروحاً ما رأى بعضهم مثلها في حياته المهنية.  باحة الطوارئ خلية نحل ممرضون ، اطباء متدربون ومساعدو أطباء يقومون بفرز المصابين وفق حالاتهم، و لم يكن سهلاً تحديد الإصابات فبعضها خفي، غير ظاهر وحده الألم يحكي عنه لكن لا بدّ من معرفة اي الحالات أكثر إلحاحاً من غيرها وأيها يحتاج الى النقل نحو العناية المركزة. لكن الطاغي على الإصابات هي الجروح النازفة نتيجة انغراز الزجاج فيها وهي تكاد تتحول بحراً أحمر يدمي الأرض. فالجرحى في كل مكان يملأون أروقة الطوارئ وأسرتها وباحاتها الخارجية وكل فسحة فيها... هنا لم يعد الوقت للتفكير او التحليل ولا مجال لمشاورات بين الأطباء لتقييم كل حالة لقد انقلبت كل الأولويات وصار الهدف واحداً تنظيف الجراح ، إيقاف نزفها و تقطيبها بالسرعة المطلقة لمعالجة أكبر عدد من المصابين.

تنظيم الصفوف لمعالجة كل المصابين

لم تطل مطلقاً حالة التشتت ، بسرعة نظم الجميع صفوفهم وصار مستشفى بلفو بأكمله غرفة عمليات تجند الجميع فيها من الكبيرهم الى الصغير للقيام بما يفوق طاقته لوقف نزيف مدينة حلت بها اسوأ نكبة في تاريخها. الكورونا كان حاضراً في الأذهان ، والوقاية رغم هول الكارثة ضرورية، تسلح الجميع بأقنعته واتخذوا الاحتياطات اللازمة وهبوا الى تأدية رسالتهم التي اتخذت في هذا الوقت أسمى معانيها.

كل أقسام المستشفى حاضرة، قسم الصيدلية يعمل بكل ما اوتي به من قوة لتوفير ضمادات وأدوية وخيطان لتأمين ما تتطلبه معالجة الجروح، والممرضون مستنفرون الى جانب الأطباء على اختلاف اختصاصاتهم لتقطيب الجروح الكثيرة و تطمين المصابين الى حالهم. أكثر من 50 الى 60 طبيب مع مساعد طبيب يعملون بلا توقف لإغاثة كل المصابين الذين استمروا بالتدفق الى المستشفى.

مشاهد إنسانية مبكية رائعة بتضامنها، أحدهم وكانت اذنه مقطوعة نصفين تنزف دماً أمسكها بيده وشد عليها وراح يواسي بلغة اسبانية يتقنها رجلاً كولومبياً منهاراً لا يعرف ماذا يحدث له ولزوجته. مع ألمه تولى الشاب ترجمة ما يجري للعائلة الكولومبية محاولاً التخفيف عنها.

آخر كانت أوتار يده مقطوعة ويعاني من ألم كبير لكنه شاء ان تمر صبية منهارة أمامه فهو قادر على التحمل أما هي فجرحها نازف ويبدو أنها ستنهار بين لحظة وأخرى.

محو آثار الماساة

العمل لا يحتمل البطء والجراح لا تنتظر خططاً ومشاورات. لكن د. رياض أبي صالح المختص بالترميم والتجميل أدرك بعينه المتمرسة ان جراح الوجه تحتاج الى يد خبيرة تمحو عنها آثار المأساة حتى لا تترك جرحاً في النفس قبل الوجه يذكر بالمجزرة التي عاشها هؤلاء الأشخاص مع كل طلعة شمس وكل نظرة في المرآة. لقد عرف ان من واجبه ان يعمل على تخفيف الألم وعبء الخوف من الغد عنهم حتى لا تكون مأساتهم جرحاً يحفر في نفوسهم الى الأبد. لقد اراده ان يكون ذكرى سيئة يمحوها الغد والأمل بمستقبل افضل. طلب من مساعديه ان يرسلوا إليه المصابين في وجوههم ليعمل على تقطيبهم بقطب تجميلية تخفف آثار الجروح وتترك لهم هويتهم وتشعرهم انهم عادوا يتحكمون بحياتهم من جديد بدل ان يكونوا لعبة ممزقة بيد قدر ظالم. برفقة د. نانسي معلوف وهي طبيبة اعصاب زميلة له في مستشفى ومركز بلفوالطبي  عمل لساعات متواصلة طوال الليل الى ان جف نهر الناس المتدفق على المستشفى. و كانت آخر مرضاه عروس صبية دهمها عصف الانفجار وهي تقيس ثوب زفافها في منطقة مار مخايل مع شقيقتها الإشبينة ووالدتها. الثلاثة أصبن بجروح في الوجه والرأس و نجون بأعجوبة لكن الأمل بفرحة قريبة انطفأ في وجوههن. انما تدخل طبييب التجميل أعاد رسمه على الوجوه وقد اصر على إعطاء العروس أفضل ما يمكن ليعيد إحياء الأمل في قلبها بأن تكون أجمل العرائس يوم زفافها .

مع بزوغ اليوم التالي تبين حجم الكارثة التي اصابت بيروت وظهر للعلن العمل الجبار الذي قام به اطباء لبنان وممرضيه في ظروف صعبة تكاد تلامس المستحيل.فكانوا اليد التي بلسمت الجراح والقلب الذي واسى المصابين وحمل بعض آلامهم في أرقى صورة لرسالة الطب الإنسانية. فمنا لهم وللمستشفيات التي حضنتهم ألف تحية محبة وتقدير.

 

 

 

 

Comments